الذكاء الاصطناعي: المرآة السوداء للعقل البشري
الذكاء الاصطناعي: المرآة السوداء للعقل البشري
مقال فيليب بول، كاتب حر ومؤلف لكتب حول العلاقة بين العلم والثقافة
(مترجم بتصرف)
أنا والفيلسوفة (شانون فالور) نجلس في المكتبة البريطانية في لندن، والتي تضم قرابة المائتي مليون عنصر، من كتب وتسجيلات وصحف ومخطوطات وخرائط. بعبارة أخرى، نحن نتحدث في نوع المكان الذي تُقبل عليه روبوتات الذكاء الاصطناعي الحديثة مثل ChatGPT لتنهل منه المعرفة. نحتسي قهوتنا في شرفة المكتبة، ونحن في كنف ظلٍّ حقيقي يُلقيه معهد كريك، ذاك الصرح الذي تُفكك بين جدرانه أعقد أسرار الجسد البشري. ولو قذفنا بحجر من الشرفة، متجاوزًا محطة قطارات سانت بانكراس، لما استبعدنا أن يصيب مقر غوغل في لندن؛ تلك الشركة التي عملت فيها شانون فالور متخصصةً في أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، قبل أن تنتقل إلى اسكتلندا لتتولى قيادة مركز (الآفاق التكنولوجية الأخلاقية) في جامعة إدنبرة.
هنا، بين غموض الطبيعة البشرية، وثروات اللغة الكامنة في وعينا، وغرور الذكاء الاصطناعي التجاري، تساعدني فالور على فهم الصورة الكاملة. هل سيحلّ الذكاء الاصطناعي كل مشاكلنا، أم سيقذف بنا إلى هاوية العدم، وربما يدفع بنا نحو الانقراض؟ كلا الاحتمالين أثار موجات من العناوين الصاخبة والقلق الإعلامي. لكن فالور لا تهتم كثيرًا بهذه التهويلات. هي تعترف بأن الذكاء الاصطناعي يحمل في طيّاته قدرات هائلة على تقديم الخير أو التسبب في الضرر، لكنها ترى أن الخطر الحقيقي لا يكمن في قدراته بحد ذاتها، بل في موضعٍ آخر.
في كتابها (مرآة الذكاء الاصطناعي) الصادر عام 2024، تشرح فالور أن التصوّر المتفائل بأن الذكاء الاصطناعي يُشبهنا في التفكير، وكذلك الخوف المبالغ فيه من أن يتحوّل إلى طاغية شرير، كلاهما ينبعان من افتراض زائف بأن بيننا وبين الآلة صلة جوهرية. هذا الافتراض، كما تحذّر، يُنتج نظرة مشوَّهة لعقولنا نحن، قد تقودنا في نهاية المطاف إلى التخلّي عن قدرتنا على الاختيار، والتقليل من قيمة حكمتنا أمام قوة الآلة.
"تسهل المقاربة -والمقارنة- بين الإنسان والآلة ، حين يُنظَر إلى الإنسان على أنه آلةٌ بلا عقلٍ أو إرادة."
أثناء قراءتي للكتاب، لفت انتباهي تجاهل فالور للمخاوف التقليدية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، كقضايا الخصوصية والمعلومات المضللة وما شابهها. فالكتاب في جوهره تأمل عميق في العلاقة بين الإنسان والآلة، وتحذير من رؤية مبتذلة للإنسان تروّج لها صناعة التكنولوجيا؛ حيث يُصوَّر الإنسان كأنه كمبيوتر ناعم رخو، مكوَّن من لحم وماء لا من وعي وروح. وإن بدا هذا الحديث كئيبًا، فإن فالور أبعد ما تكون عن التشاؤم، تمزج بصيرتها العميقة بخفّة الظل، وقد صقلتها تجربتها في قلب الصناعة، موصولة بأساس راسخ في فلسفة العلم والتكنولوجيا. لكن ما يميزها بوضوح هو الصدق الأخلاقي والعمق الفكري، وهو ما يجعلها على النقيض تمامًا من الرؤية السطحية والغرور المعتاد لبعض من رموز هذا الوسط.
تقول فالور: نحن نمرّ بلحظة تاريخية تتطلّب أن نُرمّم ثقتنا بقدرات الإنسان على التفكير الواعي واتخاذ قرارات جماعية حكيمة. لن نتمكن من مواجهة أزمة المناخ أو تدهور الديمقراطية إذا لم نُعِد الثقة في حكمة العقل البشري وحُسن تقديره للأمور، والمشكلة أن كل ما يجري في مجال الذكاء الاصطناعي اليوم يُقوّض هذه الثقة.
الذكاء الاصطناعي كمرآة
تقول فالور: إنه لفهم خوارزميات الذكاء الاصطناعي، يجب ألا نعتبرها عقولًا تفكر. لقد اعتدنا، بفعل الخيال العلمي والرؤى الثقافية خلال قرن كامل، أن نتوقع أن الذكاء الاصطناعي سيكون آلة ذات عقل، لكن ما لدينا الآن مختلف تمامًا من حيث الطبيعة والبنية والوظيفة. بدلاً من ذلك، ينبغي لنا أن نتخيل الذكاء الاصطناعي كمرآة عاكسة لا صانعة.
تستكمل فالور: عندما تذهب إلى الحمام لتنظيف أسنانك، أنت تعلم أنه لا يوجد وجه آخر يحدق بك، إنه مجرد انعكاس لوجهك، وله خصائص بعيدة كل البعد عن التجسم الحي. وبالمثل، فإن انعكاس العقل ليس عقلًا. روبوتات الدردشة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، وكذلك مولدات الصور التي تعتمد على نماذج لغوية ضخمة، هي مجرد مرايا للأداء البشري. فمثلاً، جميع مخرجات نماذج شات جي بي تي (ChatGPT)، ما هي إلا انعكاس للذكاء البشري، وتفضيلاتنا الإبداعية، ومهاراتنا البرمجية، وأصواتنا، أي كل ما نغذيه به في المجمل. حتى الخبراء، كما توضح فالور، ينخدعون داخل بيت المرايا هذا.
على سبيل المثال، جيفري هينتون، عالم الكمبيوتر الذي تشارك جائزة نوبل لهذا العام في الفيزياء عن عمله الرائد في تطوير تقنيات التعلم العميق والتي أسست لنماذج اللغة الضخمة، قال في مؤتمر للذكاء الاصطناعي (عام 2024): "نحن نفهم اللغة بنفس الطريقة التي تفهم بها هذه النماذج اللغوية الكبيرة".
يُقِرُّ هينتون أن هذه الأشكال من الذكاء الاصطناعي لا تقتصر على اجترار النصوص بشكل أعمى، بل إنها تطوّر نوعًا من الإدراك لمعاني الكلمات والمفاهيم نفسها بعد التدريب، وذلك من خلال السماح لها بتعديل الروابط في شبكتها العصبية حتى تبدأ في تقديم إجابات موثوقة، وهي عملية قارنها هينتون بـ (تربية طفل موهوب بشكل خارق للطبيعة). لكن، وبما أن الذكاء الاصطناعي يمكنه "أن يعرف" أكثر بكثير مما نعرفه، و"يفكر" بسرعة أكبر، يخلص هينتون إلى أنه قد يحل محلنا في نهاية المطاف كما قال في المؤتمر التكنولوجي لمعهد ماساتشوستس (سنة 2023): "من الممكن تمامًا أن يكون الإنسان مجرد مرحلة عابرة في تطور الذكاء".
تستطرد فالور: هينتون بعيد للغاية عن الواقع في حديثه عن المعرفة والتجربة. نحن نعلم أن الدماغ ونموذج التعلم الآلي متشابهان فقط بشكل سطحي في هيكلهما ووظيفتهما. لكن من حيث ما يحدث على المستوى الفيزيائي، هناك فارق شاسع يؤكد اعتقادنا بوجود اختلاف قاطع. بمعنى آخر، لا يوجد أي نوع من المقاربة بينهما على الإطلاق.
أرد على فالور بإنني أتفق على أن المزاعم المنذرة بنهاية العالم نالت نصيبًا مبالغًا فيه من الاهتمام، لكن بعض الباحثين يشيرون إلى أن نماذج اللغة الكبيرة أصبحت أكثر إدراكًا، حيث يُقال إن أحدث روبوت دردشة من (OpenAI)، النموذج (o1)، يعمل من خلال سلسلة من خطوات التفكير المنطقي -رغم أن الشركة لم تكشف عنها، لذا لا يمكننا معرفة ما إذا كانت تشبه التفكير البشري-. ولا شك أن للذكاء الاصطناعي سمات يمكن اعتبارها جوانب من العقل، مثل الذاكرة والتعلم. وقد اقترحت عالمة الكمبيوتر ميلاني ميتشل، ومنظِّر التعقيد الحسابي ديفيد كراكاور: أنه وإن لم يكن من الصواب اعتبار هذه الأنظمة عقولًا تشبه عقولنا، إلا أن بإمكاننا النظر إليها كعقول من نوع مختلف، وغريب علينا.
أجابتني فالور بقولها: "أنا متشككة جدًا في هذا الطرح. قد يكون مناسبًا في المستقبل، ولا أعارض من حيث المبدأ فكرة أننا قد نتمكن من بناء عقول آلية. لكنني لا أعتقد أن هذا ما نقوم به في الوقت الحالي."
تنبع مقاومة فالور لفكرة الذكاء الاصطناعي كعقل من خلفيتها الفلسفية، حيث يُنظر إلى العقلانية على أنها متجذرة في التجربة، وهي تحديدًا ما تفتقر إليه أنظمة الذكاء الاصطناعي الحالية. ولهذا السبب، تقول إنه من غير المناسب وصف هذه الآلات بأنها "تفكر". وهنا تصطدم رؤيتها مع الورقة البحثية التي كتبها عالم الرياضيات والمُبتكر البريطاني آلان تورينغ عام 1950 بعنوان (الآلات الحاسوبية والذكاء)، والتي تُعد على نطاق واسع؛ الأساس المفاهيمي للذكاء الاصطناعي. طرح تورينغ سؤالًا: هل يمكن للآلات أن تفكر؟ لكنه سرعان ما استبدله بسؤال اعتبره أكثر جدوى، وهو: هل يمكننا تطوير آلات تستطيع أن تُجيب على الأسئلة بطريقة لا يمكننا تمييزها عن إجابات البشر؟ هذا ما عُرف بـ (لعبة المحاكاة)، والتي تُعرف اليوم باسم (اختبار تورينغ).
تؤمم فالور على كلامي: هذا ما أقصده؛ إن الأمر لا يعدو كونه محاكاةً فحسب. بالنسبة لي، التفكير هو مجموعة محددة وفريدة من نوعها من التجارب التي نمر بها. التفكير دون تجربة يشبه الماء من دون الهيدروجين؛ لقد أزلت عنصرًا جوهريًا يفقد معه الشيء هويته. إن التفكير المنطقي يبنى على مفاهيم، وهو ما لا تطوّره نماذج اللغة الكبيرة على نحو حقيقي. ما نُطلق عليه مفاهيم داخل نموذج لغوي ضخم هو في الواقع شيء مختلف تمامًا. إنه مجرد تخطيط إحصائي للروابط داخل فضاء رياضي واسع الأبعاد. ومن خلال هذا التمثيل، يتمكن النموذج من الوصول إلى حل بطريقة أكثر كفاءة من البحث العشوائي. لكن هذه ليست طريقتنا في التفكير. البراعة الحقيقية لهذه النماذج، هي التظاهر بالتفكير المنطقي. إذا سألنا النموذج: كيف توصلت إلى هذه النتيجة؟ سينسج لنا سلسلة كاملة من الأفكار تبدو منطقية، لكنها تنهار بسرعة إذا ما تمحصت فيها، وهذا بحد ذاته يكشف أنها لم تكن سلسلة تفكير حقيقية تبنّاها النموذج أو التزم بها، إنها مجرد توزيع احتمالي لأنماط شبيهة بالمنطق، متوافقة ظاهرًا مع الناتج الذي ولّده. كل ذلك يحدث بأثر رجعي تمامًا.
الآلة البشرية
"ثقافة وادي السيليكون تحمل في طياتها بعضاً من سمات الدين؛ فهي مترسخة، وعصيّة على الدحض بالأدلة أو النقاش"
منذ الأيام الأولى لنشأة الذكاء الاصطناعي في خمسينيات القرن الماضي، ظهرت بوادر الخطأ في الإصرار على المقاربة الخيالية بين العقل البشري والآلة. وما يقلقني أكثر، كما قلت لفالور، ليس أن قدرات الذكاء الاصطناعي تُضخَّم بمثل هذه المقارنة، بل إن الخطر الحقيقي يكمن في التقليل من شأن العقل البشري نفسه؛ إذ يُختزل إلى مجرد وظيفة ميكانيكية، فيخسر شيئاً من سموه وتميّزه الفطري.
وتروي فالور أنّها كلّما ألقت محاضرة تشير فيها إلى أن خوارزميات الذكاء الاصطناعي ليست عقولاً بالمعنى الحق، يأتيها أحد الحضور ليقول: أتفق معك، لكن السبب هو أن عقولنا نحن أيضاً لا تقوم بهذه الوظائف كما نظن؛ فنحن لسنا عقلانيين تمامًا، ولسنا مسؤولين بالكامل عن معتقداتنا. نحن مجرد آلات تنبؤية تؤدي المتوقع منها، ونميز الأنماط، تمامًا كما تفعل نماذج اللغة الآلية.
اقترح هينتون أن نموذج اللغة الآلي قد يشعر كالإنسان مستقبلاً، لكن توضح فالور: ربما ليس كما نفعل نحن، ولكن بمعنى مختلف قليلًا؛ لأنه لم يصل لذلك إلا عن طريق تفريغ مفهوم المشاعر من أي تجربة إنسانية، وتحويله إلى رد فعل سلوكي. إنه يستند إلى النظريات التبسيطية في القرن العشرين حول العقل البشري باعتبارها الأرضية الأساسية. ومن هنا يصبح من السهل جدًا الإصرار على المقارنة بين الآلات والبشر؛ لأنك قد حولت الإنسان بالفعل إلى آلة خالية من العقل.
تكمن حدة هذه الإشكاليات في الفكرة التي كثيرًا ما يُحتفى بها: الذكاء الاصطناعي العام (AGI) : يُعرَّف هذا النوع عادةً بأنه ذكاء آلي قادر على أداء أي وظيفة ذكية يستطيع الإنسان القيام بها، ولكن بشكل أفضل. ويعتقد بعضهم أننا نقترب بالفعل من هذا الإنجاز. غير أن إطلاق مثل هذه الادعاءات يتطلّب منا، فعليًا، إعادة تعريف الذكاء البشري ليغدو مجرد فرعٍ يسهل التغاضي عنه.
أومأت فالور: نعم، وهذه في الواقع استراتيجية متعمَّدة لصرف الانتباه عن الحقيقة التي مفادها أننا لم نصل إلى الذكاء الاصطناعي العام، ولسنا حتى قريبين منه.
في الأصل، كان يُقصد بالذكاء الاصطناعي العام (AGI) أن يكون آلةً تفعل ما يستطيع العقل البشري فعله بالضبط؛ كيانًا لا يمكن أن يساورنا شك في أنه يُفكّر ويفهم العالم من حوله.
لكن توضح فالور في كتابها (مرآة الذكاء الاصطناعي): أن خبراء مثل جيفري هينتون وسام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة OpenAI التي طورت ChatGPT، باتوا اليوم يعرّفون الذكاء الاصطناعي العام (AGI) على أنه نظام يضاهي الإنسان أو يتفوق عليه في الحساب، والتنبؤ، والنمذجة، والإنتاج، وحلّ المشكلات.
قالت فالور في نبرة المتأمل الناقد: لقد غيّر ألتمان قواعد اللعبة، وجعل معيار الذكاء الاصطناعي العام (AGI) أن تكون الآلة قادرة، عملياً، على أداء جميع المهام ذات القيمة الاقتصادية التي ينجزها البشر. وهذا التصور شائع في أوساط المتخصصين. فمصطفى سليمان، الرئيس التنفيذي للذكاء الاصطناعي في مايكروسوفت، كتب أن الهدف النهائي من الذكاء الاصطناعي هو "استخلاص مقومات الإنتاج البشري والقدرة الإنسانية وبناءها في صورة برمجية، أي على هيئة خوارزمية"، ويرى أن هذا مكافئ لـ (إعادة إنتاج ما يميزنا كبشر، وهو الذكاء).
وتستذكر قائلة: حين رأيت كيف أعاد ألتمان تعريف الذكاء الاصطناعي العام، اضطررت إلى إغلاق الحاسوب والتحديق في الفراغ لنصف ساعة. لقد أصبح الهدف الآن نموذج يمكن لرئيسك في العمل أن يستبدلك به، لا بأس إن كان بلا عقل، كالمحمصة الكهربائية، ما دام يؤدي مهامك بكفاءة. وهذا تماماً ما تفعله النماذج اللغوية الكبيرة؛ إنها محمصات عديمة الوعي، تؤدي عملاً فكرياً هائلاً من غير أن تفكّر.
لأتابع هذا الخيط في حديثي مع فالور: فمثلاً، صناعة خوارزميات تتفوق علينا في الشطرنج أمر يسهل تفهمه، لكننا الآن أمام خوارزميات تكتب نثراً مقنعاً، وتُجري محادثات جذّابة، وتؤلّف موسيقى قد تنطلي على البعض بأنها من صنع البشر. صحيح أنّ هذه الأنظمة قد تبدو محدودة، بل ومسطّحة في أحيان كثيرة، لكن أليس من الجائز أنها تقترب شيئاً فشيئاً من المهام التي كنا نظنّها يوماً حِكراً على الإنسان؟
تقول فالور: هنا يصبح التشبيه بالمرآة دقيقاً، انعكاسك في المرآة يمكنه الرقص، ومرآة جيدة بما فيه الكفاية يمكنها أن تُظهر لك الجوانب الخفية في جسمك كإنسان، لكن لن تعكس طريقة تفكيرك، إنما تعكس الحركة والأداء فقط. أما عن الإنتاج الفني للذكاء الاصطناعي، فمن المهم أن ندرك أنه لا يوجد شيء على الجانب الآخر -جانب الآلة- يشارك في هذا التواصل.
ما يُربكنا هو أننا يمكن أن نشعر بالعواطف استجابةً لعمل فني مولد بواسطة الذكاء الاصطناعي. لكن هذا ليس مفاجئًا، لأن الآلة ببساطة تعكس لنا تتابعات من الأنماط التي أنشأها البشر؛ موسيقى شبيهة بتلك التي ألفها شوبان، نثر يشبه ما كتبه شكسبير. والاستجابة العاطفية لا تُفتك بطريقة ما من المحفِّز -العمل الفني- بل تُبنى في عقولنا نحن. التفاعل مع الفن أكثر تلقائية مما نميل إلى تصوره. لكن الأمر لا يقتصر على الفن فقط.
تعلق فالور: "نحن صانعو المعاني ومخترعوها، وهذا جزء مما يمنحنا حريتنا الشخصية، والإبداعية، والسياسية. نحن لسنا محصورين في الأنماط التي استوعبناها، بل يمكننا إعادة ترتيبها في أشكال جديدة. نفعل ذلك مثلاً عندما نستحدث القوانين الأخلاقية في مختلف الأنحاء، بناءً على معطيات جديدة. لكن هذه الآلات تعيد تدوير نفس الأنماط والأشكال مع تغييرات إحصائية طفيفة، وليس لديها القدرة على خلق المعنى. وهذا هو الفارق الجوهري الذي يفند تلك المقاربة -مقارنة الإنسان بالآلة-."
مشكلة وادي السيليكون
"الناس يعتقدون حقًا أن شمس القرار البشري توشك على الغروب، وهذا أمر مرعب بالنسبة لي"
هنا أسأل فالور عمّا إذا كانت بعض هذه المفاهيم الخاطئة والتضليلات حول الذكاء الاصطناعي متجذّرة في طبيعة مجتمع التكنولوجيا نفسه، أي في ضيق أفقه من حيث التكوين والثقافة، وفي افتقاره إلى التنوع.
تتنهد قائلة: بعد أن عشت معظم حياتي في منطقة خليج سان فرانسيسكو، وعملي في مجال التكنولوجيا، يمكنني أن أؤكد لك أن تأثير تلك الثقافة عميق، وهي ليست مجرّد رؤية ثقافية محددة، بل لها سمات الدين. هناك التزامات معينة في طريقة التفكير هذه لا يمكن زعزعتها بأي نوع من الأدلة أو الجدل. في الواقع، تقديم الأدلة المناقضة يُقصيك من النقاش أساساً. إنها رؤية شديدة الضيق لماهية الذكاء، تستند إلى منظومة قيم محدودة، حيث تُعدّ الكفاءة ونموذج الهيمنة الشاملة هما أسمى المساعي لأي فرد ذكي، على طريقة (الفائز يأخذ كل شيء). لكن هذه الكفاءة لا يتم تعريفها أبدًا بالإشارة إلى أيٍّ من القيم العليا، وهذا ما يُدهشني دومًا؛ لأنني قد أكون الأكفأ في حرق كل منزل على هذا الكوكب، ولن يقول أحد: رائع يا شانون، أنتِ أكفأ مُشعِلة حرائق رأيناها في حياتنا! أحسنتِ!
تُعد الكفاءة غاية في حد ذاتها في وادي السيليكون. الأمر يتمحور حول الوصول إلى وضع تُحلّ فيه المشكلة بالكامل: لا نقاش، لا غموض، لا شيء متروك دون قول أو فعل. لقد سيطرت على المشكلة تمامًا، فاختفت، ولم يتبقَّ سوى حلك المتقن المتلألئ. إنها أيديولوجيا ترى الذكاء كقوة تسعى إلى إلغاء جوهر التفكير ذاته.
ثم تروي فالور أنها حاولت ذات مرة أن تشرح لأحد قادة أبحاث الذكاء الاصطناعي العام (AGI) أنه لا توجد صيغة رياضية لحلّ مسألة العدالة. "قلت له إن جوهر العدالة يكمن في تعارض القيم والمصالح، وهي لا يمكن اختزالها في مقياس موحد، وأن عمل التأمل البشري، والتفاوض، والاستئناف، هو أمر جوهري لا غنى عنه. فردّ عليّ قائلاً: أعتقد أن هذا يعني ببساطة أنكِ سيئة في الرياضيات. فبماذا عساي أن أرد؟ لقد تحوّل النقاش إلى صدام بين رؤيتين للعالم لا تلتقيان، لكل منهما تصورين مختلفين تمامًا للواقع."
الخطر الحقيقي
لا تُقلّل فالور من شأن التهديدات التي يفرضها تطوّر الذكاء الاصطناعي المتسارع على مجتمعاتنا، من انتهاك الخصوصية، والتضليل، إلى زعزعة الاستقرار السياسي. لكن ما يشغل بالها حقًا في هذه اللحظة هو ما يفعله الذكاء الاصطناعي بصورتنا عن أنفسنا.
تشرد فالور قليلاً وتكمل: أعتقد أن الذكاء الاصطناعي يشكّل تهديدًا وشيكًا لمعنى الوجود الإنساني ذاته، فمن خلال أتمتة ممارساتنا الفكرية، ومن خلال السردية التي تُنسَج حوله، يعمل الذكاء الاصطناعي على تقويض تصوّرنا لأنفسنا كعقول حرة ومسؤولة في هذا العالم. يمكنك أن ترى انعكاس ذلك في الخطابات السلطوية التي تسعى لتبرير سلب الإنسان حقه في الحكم الذاتي. لقد ضخّ الذكاء الاصطناعي روحًا جديدة في هذه السردية. وما هو أسوأ، إن هذه السردية تُقدَّم بوصفها موضوعية ومحايدة وخالية من أي انحياز سياسي، وكأنها (مجرد علم). تجد أشخاصًا يعتقدون حقًا أن زمن الفعل البشري قد ولّى، وشمس القرار الإنساني في طريقها إلى الغروب، وذلك أمر جيد، بل حقيقة علمية بحتة! إن هذا يثير الرعب في نفسي حقاً. يُقال لنا إن الذكاء الاصطناعي العام سيبني شيئًا أفضل. وأنا أعتقد بالفعل أن هناك أشخاص بالغي التشكك، يؤمنون بهذا، ويجدون نوعًا من العزاء الديني في اعتقادهم بأنهم يرعون ولادة خلفائنا الآليين.
فالور لا تريد إيقاف تطوّر الذكاء الاصطناعي، فهي ترى أنه قادر على المساهمة في حل بعض من أعظم المشكلات التي نواجهها. وتقول: "لا تزال هناك تطبيقات هائلة للذكاء الاصطناعي في مجالات الطب، وقطاع الطاقة، والزراعة. أريد لهذا التطوّر أن يستمر، ولكن بطريقة مدروسة، وموجَّهة، وخاضعة لقولبة رشيدة."
ولهذا السبب، فإن رد الفعل العكسي ضد الذكاء الاصطناعي، مهما كان مفهومًا، قد يسبب مشكلة أخرى على المدى الطويل.
تستطرد فالور: ألاحظ أن كثيرين بدأوا يتحوّلون ضد الذكاء الاصطناعي. لقد أصبحت الكراهية تجاهه قوية في العديد من الأوساط الإبداعية. قبل ثلاث سنوات فقط، عندما بدأت نماذج اللغة والصورة في الظهور، كانت هذه المجتمعات أكثر توازنًا في مواقفها. كان رد الفعل: "هذا مثير للاهتمام نوعًا ما". لكن طريقة تعامل صناعة الذكاء الاصطناعي مع حقوق المبدعين كانت استغلالية إلى حدٍّ كبير، لدرجة أنك ترى الآن المبدعين يقولون: "تبًا للذكاء الاصطناعي ولكل ما يرتبط به، لا تدعوه يقترب من أعمالنا الإبداعية". وأنا قلقة من أن تؤدي هذه الاستجابة الانفعالية تجاه أكثر أشكال الذكاء الاصطناعي ضررًا إلى حالة عامة من انعدام الثقة تجاهه، تُعيق استخدامه كأداة لحلّ أي مشكلة.
على الرغم من رغبة فالور في دعم الذكاء الاصطناعي، توضح قائلةً: "أجد نفسي كثيرًا ضمن معسكر الأشخاص الذين يثورون عليه بغضب لأسباب مشروعة". وتعترف أن هذا الانقسام يُصبح جزءًا مما تسميه (الانفصال المصطنع بين الإنسانية والتكنولوجيا).
هذا الاستقطاب، كما تقول: "قد يكون مدمّرًا للغاية، لأن التكنولوجيا جزء جوهري من هويتنا؛ فنحن مخلوقات تكنولوجية منذ قديم الأزل. لقد كانت الأدوات وسيلة تحررنا، ووسيطًا للإبداع، وطريقة أفضل لرعاية بعضنا البعض والكائنات الأخرى على هذا الكوكب، ولا أريد أن أتخلى عن ذلك دعماً لهذا الانفصال المصطنع بين الإنسان والآلة. لأن التكنولوجيا في جوهرها هي نشاط إنساني بامتياز. نحن فقدنا الوزن الصحيح للأمور فقط."