العزلة أولاً: صحبة النفس قبل صحبة الناس
العزلة أولاً: صحبة النفس قبل صحبة الناس
مقال جينيفر ستيت، باحثة دكتوراه في تاريخ الفكر الأمريكي بجامعة ويسكونسن–ماديسون
"إنه يأبى أن يكون وحيدًا... إنه المثال الحيّ لفساد النفس... إنه رجل الحشد"
بهذه الكلمات صوّر الشاعر الأمريكي إدغار آلان بو، الاندفاع الهستيري لرجلٍ طاعنٍ في السن، يهرب من أفكاره كما يفرّ الجاني من مسرح الجريمة، فيجوب شوارع لندن من الصباح حتى المساء، لا يهدأ له بال، ولا يسكن له خاطر. لم يكن يجد راحة من يأسه المؤلم إلا في الغوص داخل الحشود، حيث يتلاشى الفرد في صخب الجماعة، وتُخمد الضوضاء صوت الضمير. لم يكن بو يصف فسادًا يُقاس بالقانون، بل حالةً وجودية تنمّ عن قطيعة مع الذات، وانفصال عن التأمل، ورفض لمواجهة الحقيقة أثناء الخلوة بالنفس. يشدّد بو على أهمية العزلة مثل العديد من الشعراء والفلاسفة عبر العصور، ويرى فقدان الإنسان لقدرته على مجالسة نفسه بأنها "خسارة عظيمة"، بسعيه المتواصل للانغماس في الحشود، والتخلي عن فرادته لصالح التوافق المملّ مع الأغلبية.
وبعد عقدين من الزمن، استحوذت فكرة العزلة على خيال المفكر رالف والدو إمرسون بطريقة مختلفة قليلاً. يكتب رالف مقتبسًا عن فيثاغورس: في عزلة الصباح، ... تتحدث الطبيعة إلى خيال الفرد الواحد، بما لا تفعل أبدًا مع الجماعة. يشجّع إمرسون المعلمين الحكماء على ترسيخ أهمية "فترات وعادات العزلة" لدى تلاميذهم، وهي عادات تجعل "التفكير الجاد والمجرد" ممكنًا.
وفي القرن العشرين، أصبحت فكرة العزلة محور تفكير حنة آرنت، وهي مهاجرة يهودية ألمانية فرت من النازية ولجأت إلى الولايات المتحدة، وقضت جزءًا كبيرًا من حياتها تدرس العلاقة بين الفرد والمجتمع. بالنسبة لها، كانت الحرية مرتبطة بكل من المجال الخاص -الحياة التأملية- والمجال العام السياسي -الحياة العملية-. فهمت آرنت أن الحرية تتطلب أكثر من القدرة على التصرف العفوي والإبداعي في العلن؛ إنها تتطلب أيضًا القدرة على التفكير والحكم في الخفاء، حيث تمكّن العزلة الفرد من تأمل أفعاله ومناجاة ضميره، والهروب من صخب الحشود لسماع صوته الداخلي أخيرًا.
وفي عام 1961، كُلِّفت آرنت من مجلة "ذا نيويوركر" بتغطية محاكمة أدولف آيخمان، ضابط قوات الأمن الخاصة النازية الذي شارك في تنظيم الهولوكوست. تساءلت آرنت: كيف يمكن لأي شخص ارتكاب مثل هذا الشر؟ بالتأكيد لا يمكن إلا لسيكوباتي شرير أن يشارك في المحرقة. لتفاجئ بمدى افتقار آيخمان للخيال، وبتوافقه التام مع الأعراف. جادلت آرنت بأن أفعال آيخمان كانت شريرة، لكن آيخمان نفسه -الشخص- كان عاديًا تمامًا، ومألوفًا، ولا يحمل أي صفات شيطانية أو وحشية، لم يكن هناك أي دليل على قناعات أيديولوجية متطرفة لديه. نسبت آرنت انعدام ضميره وقدرته، بل وحتى رغبته في ارتكاب الجرائم إلى "انعدام تفكيره". أي أن انتفاء قدرته على التوقف والتفكير الذاتي هي التي سمحت له بالمشاركة في القتل الجماعي.
كما اشتبه بو في أن شيئًا ما شريرًا يكمن عميقًا داخل رجل الحشد، أدركت آرنت أن الشخص الذي لا يعرف ذلك الحوار الصامت -الذي نفحص فيه ما نقوله وما نفعله- لن يمانع التناقض مع ذاته، وهذا يعني أنه لا يهتم كثيراً بتحمل مسؤولية ما يقوله أو يفعله، ولن يمانع في ارتكاب أي جريمة، لأنه يمكنه الاعتماد على نسيانها في اللحظة التالية.
تخلّى آيخمان عن التأمل الذاتي السقراطي، وفشل في العودة إلى نفسه وإلى حالة العزلة، تخلّى عن الحالة التأملية، وبالتالي فشل في الشروع في عملية السؤال والجواب الأساسية التي كانت ستسمح له بفحص معنى الأشياء، والتمييز بين الحقيقة والخيال، والصواب والخطأ، والخير والشر.
كتبت آرنت: "من الأفضل أن تعاني من الظلم على أن ترتكبه، لأن بإمكانك أن تبقى صديقًا للمظلوم؛ لكن من يرغب في أن يكون صديقًا للقاتل؟ قاتل آخر لا يرغب في ذلك حتى". لا يعني هذا شيطنة الرجال غير المفكرين، أو أن البائسين في هذا العالم يفضلون ارتكاب القتل على مواجهة أنفسهم في العزلة، لكن ما أظهره آيخمان لآرنت هو أن المجتمع لا يمكن أن يزدهر ويعمل بحرية وديمقراطية إلا إذا كان مكوّنًا من أفراد منخرطين في نشاط التفكير؛ وهو نشاط يتطلب العزلة. اعتقدت آرنت أن "العيش مع الآخرين يبدأ بالعيش مع النفس".
قد نتساءل، لكن ماذا لو أصبحنا وحيدين في عزلتنا؟ أليس هناك بعض الخطر من تحولنا لأفرادٍ متنافرة، محرومة من متعة الصداقة؟
اهتم الفلاسفة بالتمييز الحذر بين العزلة والوحدة؛ في كتاب "الجمهورية" (حوالي 380 قبل الميلاد)، قدم أفلاطون مثلاً على لسان سقراط يحتفي فيه بالفيلسوف المنعزل. كان ذلك في استعارة الكهف الشهيرة، حين فرّ الفيلسوف من ظلام كهف تحت الأرض -ومن صحبة البشر الآخرين- إلى نور الشمس وضياء الفكر التأملي. يأنس الفيلسوف بعد ذلك بذاته الباطنة ويتناغم معها ومع الوجود من حوله، وحيدًا بالوصف لا بالشعور. ففي العزلة، يغدو الحوار الصامت -الذي تجريه الروح مع نفسها- مسموعًا أخيرًا، بعد تلاشيه في صخب الجموع.
وعلى خُطى أفلاطون، لاحظت آرنت أن التفكير، من الناحية الوجودية، هو عمل فردي ولكن ليس مستوحش الوحدة؛ فالعزلة هي الحالة الإنسانية التي أرافق فيها نفسي. الوحدة الحقة هي عندما أفتقر إلى هذا التناغم وأفتقر إلى الصحبة ايضًا، أتوق إلى الرفقة ولا أجدها. لكن في العزلة، لم تكن آرنت تتوق إلى الرفقة أو تتوق إلى الصداقة لأنها لم تكن وحيدة حقًا. كانت ذاتها الباطنة صديقًا يمكنها إجراء محادثة معه، ذلك الصوت الصامت الذي يطرح دائمًا السؤال السقراطي المهم: "ماذا تعني عندما تقول...؟". وهنا تقرر آرنت أن الذات "هي الوحيدة التي لا يمكنك الهروب منها إلا بالتوقف عن التفكير".
تحذير آرنت يستحق أن نتذكره في عصرنا، ففي عالمنا المتصل بشكل مفرط، وحيث يمكننا التواصل باستمرار وفورًا عبر الإنترنت، نادرًا ما نتذكر تخصيص مساحات للتأمل الفردي. نتحقق من بريدنا الإلكتروني مئات المرات في اليوم؛ نرسل آلاف الرسائل النصية شهريًا؛ نتصفح تويتر وفيسبوك وإنستغرام بشكل مهووس، متلهفين للتواصل في جميع الأوقات مع المعارف والأصدقاء، نبحث عن أصدقاء الأصدقاء، وعشاق الماضي، وأشخاص بالكاد نعرفهم، وأشخاص لا ينبغي لنا معرفتهم، نتوق إلى الرفقة المستمرة.
آرنت تُذكّرنا بأن فقدان القدرة على العزلة، أي على مرافقة النفس والإنصات لصوتها، هو بداية فقدان القدرة على التفكير ذاته. وإذا ما لم نألف الجلوس مع ذواتنا، نخاطر بأن ننجرف في تيّار الجماعة، حيث "يجرّنا" ما يفعله ويؤمن به الجميع، إلى أن نفقد قدرتنا على التمييز بين الحق والباطل، وبين الجمال والقبح، في سجن الاتِّباع الأعمى.
فالعزلة ليست مجرّد حالة ذهنية عابرة، بل ممارسة روحية وعقلية تُنمّي الضمير، وتُؤهّل الإنسان لأن يكون فاعلًا أخلاقيًا في مجتمعه، لا مجرّد تابعٍ له. علينا أن نحسن أولًا صحبة أنفسنا، قبل سعينا لصحبة الناس.